الساعة 00:00 م
الأربعاء 14 مايو 2025
22° القدس
21° رام الله
21° الخليل
25° غزة
4.74 جنيه إسترليني
5.02 دينار أردني
0.07 جنيه مصري
3.98 يورو
3.56 دولار أمريكي
4

الأكثر رواجا Trending

"بدي أرجع أشوف".. حلم طفل غزي سرقت منه الحرب عينيه وحركته

أبو عبيدة: القسام تقرر الإفراج عن الجندي "ألكساندر" اليوم

محللون: فيديوهات الأسرى تُحرج نتنياهو وتعمّق الانقسام الإسرائيلي

بالصور وداع عن بُعد.. في غزة قد يكون العناق الأخير للشهداء "ترفًا"

حجم الخط
الوداع عن بعد في غزة
غزة - إيمان شبير - وكالة سند للأنباء

لم يعد الوداع كما كان، لا كفن يُلفّ أمام العيون، ولا قبلة تُسدل بها الستائر على الحب، في غزة، صار الوداع مكالمةً مُرتجفة، يُنهيها صاروخ، صورة مشوشة تُرسل على عَجل قبل أن ينقطع الاتصال، أو فيديو يُتداول بعد ساعات على وسائل التواصل، يُبكي العيون ولا يُبرد القلب.

تُفتح الشاشات فتطلّ منها الجنازات، لا من الأبواب، تضغط الأم زر التشغيل لتشاهد جنازة ابنها الذي قال لها قبل يوم: "ما تخافي، أنا بخير"، وتبكي الخطيبة هاتفًا لا يرنّ، تتوسل تسجيلًا أخيرًا، همسةً، ظلًّا لصوته بين الضوضاء.

ليس كل من مات ودّع، وليس كل من عاش نجا، في غزة، بات الوداع ترفًا لا يُتاح، ومشهد النهاية لا يحدث كما ينبغي، بدل العناق الأخير، هناك مكالمة مقطوعة، بدل اللمسة على الجبين، هناك صوت مرتجف يقول: "استشهد"، وبدل الجنازة، مقطع هاتف مرتعش لا يُظهر سوى الألم.

"وكالة سند للأنباء" تحدثت مع أشخاصٍ ودّعوا أحباءهم عن بُعد، بعضهم كانوا في غزّة وبعضهم في أماكن أخرى من العالم، قصصهم التي عبرت الحدود، كشفت عمق معاناتهم، فأصبحت الشاشات هي الطريق الوحيد للوداع، ولا شيء يمكن أن يعوّض عن تلك اللحظات الأخيرة التي تُختطف قبل أن يُقال فيها "وداعًا".

310724_Gaza_HD_00(4).jpg-2498ca5c-7d45-477f-83de-9e24035ba202.jpg

"الصاروخ نزل وأنا بكلمه"..

تقول ملاك زياد زوجة الشهيد الصحفي إسماعيل الغول بدمعة محبوسة في العين، "عندما تلقيت خبر إسماعيل، كنت مشغولة في الحديث معه، لم أصدق في البداية، لأنني كنت أتكلم معه لحظة نزول الصاروخ عليه، كانت المكالمة طبيعية وصوته لم يكن يدل على شيء غير عادي، يقول لي "لا تقلقي، نحن بخير"، طمأنني بشكل كبير، لكنني لم أكن أعرف في ذلك الوقت أن تلك كانت آخر مكالمة بيننا".

وتؤكد ملاك بصوت خافت، "بعد لحظات، بدأت المعلمة التي كانت معي في العمل تُخبرني عن استهداف الصحفيين، كان هناك حديث عن إصابة إسماعيل، فقلت لها: "لا، إسماعيل بخير، هو كلمنا وقال لنا إنه بخير"، لم أشك للحظة في صحة كلامه، لكن بعد وقت قصير، عندما بدأ الاتصال يقطع، بدأت أشعر بشيء غريب، وحاولت الاتصال به مرارًا، كان هاتفه لا يجيب".

وتعبّر عن ألمها، "طوال الليل، ظللت أحاول الوصول إلى إسماعيل، ولكن دون جدوى، وصلني الخبر المؤلم عبر ابن خالي، لم أستطع تصديق ما يحدث، ظللت أبحث عن أي فيديوهات له على الإنترنت حتى أتمكن من رؤيته للمرة الأخيرة، لكن ظروف الإنترنت في منطقتنا كانت صعبة، ولم أتمكن من رؤية الجنازة إلا بعد ثلاثة أيام، وعندما رأيت الفيديوهات، كانت ألمي أكبر من أن يوصف، لم أكن أتوقع أن أودعه عبر شاشة الجوال".

وتسرد ملاك بحزن عميق، كنت دائمًا أقول له: "إن شاء الله بنشوفك، إن شاء الله نتجمع، كانت آمالي كبيرة، لكن أقدارنا كانت مختلفة، حتى حين كان يصف لي حاله وهو بعيد عني، كان يعبر عن اشتياقه الكبير لنا، كنت أراه متعبًا نفسيًا أكثر من أي شيء آخر، وكان يقول لي: "أنا تعبان جدًا من بعدكم"، رغم أنه كان يعاني من المرض أيضًا".

وتضيف بدمعة تلمع في عينيها، "إسماعيل كان يهتم بكل تفاصيل حياتنا، كان دائمًا يسأل عن طفلتنا زينة، وعن كل شيء يخصني، كان يعتني بي كثيرًا، ويعرف كيف يخفف عني حتى في أصعب اللحظات، كان يحبني حبًا كبيرًا، ويظهر ذلك في كل تصرفاته، أذكر كيف كان دائمًا يظهر حبه أمام الجميع دون خجل، وكان هذا أحد الأشياء التي أحببته بها أكثر".

وتبيّن ملاك بصوت يملؤه الحزن، "إسماعيل كان إنسانًا يحمل في قلبه طيبة لا حد لها، حتى في أحلك الأوقات، كان يحاول إرضائي، وكان يولي اهتمامًا خاصًا لراحتي وسعادتي، هو كان يشعر بي أكثر من أي شخص آخر".

"صدمة تلقي خبر الاستشهاد"..

أمّا الصحفية سماح حجازي، تقول وهي تسترجع مشهد الحصار شمالًا: "كانت الأمور في غاية الصعوبة في محيط مستشفى كمال عدوان، حيث تسكن عائلتي، كنت على تواصل مستمر مع أختي التي تخبرني بأن المكان محاصر بالكامل، وعلى الجميع الخروج والانصياع لأوامر جنود الاحتلال تحت نيران الطائرات المسيرة، وتؤكد أنها وأفراد العائلة خرجوا من البيت قسرًا وساروا حيث يريد العدو".

وتسرد "حجازي" اللحظة التي تغيّر فيها كل شيء: "كان والدي وأخي معاذ قد خرجا للبحث عن طريق أكثر أمانًا للنجاة، طريق لا يمرّ من بين أيدي الجنود، ثم جاءني صوت أختي مجددًا، لكن هذه المرة كانت تنهيدة مكسورة ممزوجة بالصراخ: "أبوي ومعاذ يا سمااااح، مالهم؟" كانت تعيد السؤال باضطراب، وكأنها ترفض التصديق، ثم تصرخ: "تخيلي... استشهدوا".

وتعبر "حجازي" بلهجتها البسيطة "يمااا، ما أصعبها... الله لا يذوقها لحدا، رميت الجوال، وكان حظي أن زوجي بجانبي، شعرت أن الأرض تلف بي."

وتبين ضيفتنا، بنبرة قهر صامت: "لم أتمكن من توديعهم، حتى ولا بصورة، والدي وأخي معاذ استشهدا مع 11 آخرين بصاروخ ضرب كل المنطقة، فقدت عقلي لحظة تلقي الخبر، كيف يمكن لوالدي أن يغادرني دون أن أكحل عيني برؤيته بعد فراق دام أكثر من عام بين شمال القطاع وجنوبه؟".

وتضيف بمرارة: "كيف لظهري وسندي، شقيقي معاذ، الأقرب إلى قلبي، أن يرحل دون أن يودعني؟ كان دائم السؤال، الأقرب لروحي، الأقرب لحب أمي، وأخي الكبير محمد، صاحب الكلمة والقرار، اللي كنت ألجأ له بكل خطوة بحياتي، استُشهد وما عرفنا له قبر حتى اليوم، وجدتي، الحنان كله، راحت بهدوء وما ودعتني، كانت تحبني بطريقة ما حدا حبني فيها، حتى ابن عمي، وخالاتي التلاتة، وأولادهم... كلهم ارتقوا في الشمال، وأنا بقيت في بيتي بالجنوب، انكسر ظهري، بكل ما تعنيه الكلمة".

وتؤكد سماح أنها شعرت بكل ألم الحرب دفعة واحدة: "فقدت أخوالي في بدايتها، جدتي في منتصفها، ووالدي وأخويّ وابن عمي في نهايتها، قبل الإعلان عن الهدنة في يناير 2025، وتؤكد أنها لم تحظَ بوداع أيٍّ منهم، ولا حتى بصورة".

AA-20250103-36649889-36649871-ISRAELI_ARMY_ATTACKS_ON_THE_GAZA_STRIP_CONTINUE.jpg-ce8f741f-4c6a-4bef-a1e2-1ae1e4791783.jpg

وتكرر "حجازي" بحزن عميق: "أبدًا، لم تتح لي الفرصة لأودع أحدًا منهم" وتؤكد أنها في كل مكالمة كانت تجريها مع من تبقى من عائلتها، كانت تتعمّد أن تسأل عن تفاصيل جثامين أحبابها، وكأنها تحاول أن تستعيد شيئًا منهم. تقول: "أبي كانت تفوح منه رائحة المسك، تمنيت لو أنام إلى جواره للأبد، أخي معاذ، رفع إصبع السبابة وابتسم لأمي عند وداعه، لأنه كان حبيبها المفضل، أما أخي محمد لم يُعثر على جثمانه حتى اللحظة."

وتؤكد بحسرة لا تنتهي: "لا شيء يغني عن الوداع الحقيقي، لا صورة ولا مكالمة ولا خبر، تؤمن أن لمس الجبين والنظرة الأخيرة أمر لا يُعوّض، خاصة حين يكون المفقود هو السند والحياة، تقول: "أدعو الله أن يجمعني بهم في مستقر رحمته، وأن أراهم متنعمين في جنات النعيم".

وتصف بثقل الوحدة: "الأمر كان أصعب بكثير من أن يُروى، وأنها حاولت التماسك لتكون العكاز الوحيد المتبقي لعائلتها الصغيرة التي ما زالت على قيد الحياة".

"وداع قاهر"..

لكن القصص السابقة لم تكن الوحيدة التي جسّدت مرارة الوداع عن بعد، ثمة أمٌ بعيدة عن أرضها، وجعها وصل السماء، ودموعها بلّلت شاشة الهاتف، السيدة انتصار السعافين، المقيمة في قطر، ودّعت ابنها الشهيد أحمد السعافين، أحد ضحايا مجزرة "كافيتيريا الصفطاوي" في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، من خلف الحدود، عبر مكالمة مبللة بالدموع، وكلمات مرتعشة وجهتها لروحه البعيدة.

في مقابلة متلفزة، تابعتها "وكالة سند للأنباء"، روت انتصار تفاصيل اللحظات الأخيرة كما علمتها: خرج أحمد، ابنها البكر، من منزل شقيقته القريب بعد صلاة المغرب، وتوجّه إلى الكافيتيريا لشحن هاتفه، جلس ينتظر الشحن خارج المكان، قبل أن تباغته غارة إسرائيلية حولت الهدوء إلى نثار من الدم والدخان.

تقول انتصار: "كنت أتهيأ لصلاة العشاء هنا في الدوحة، وبعد أن أنهيت الصلاة، فتحت هاتفي لأطالع الأخبار، رأيت خبر القصف على كافيتيريا الصفطاوي، وتمنيت ألا يكون أحمد هناك... لكنني فجأة رأيت صورته، وتعرّفت عليه من النظرة الأولى، لم يخبرني أحد، كنت أنا من عرف، من رأى، من استقبل الفاجعة عبر شاشة."

لم تستطع انتصار أن تُلقي عليه نظرة الوداع، ولا أن تشارك في جنازته، ودّعته من بعيد، بصوتٍ يرتجف عبر مكالمة تُبكي كل من شاهدها، قائلة: "يا عيني، يما، الله يرحمك يا حبيبي... يسعد روحك ويجعل مثواك الجنة".

37049d23-01d9-4e64-ac92-e1ee95bc24b7.jpg
 

OSZAR »